وكذلك القول في المصيبة ، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولا أوّليا ، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة : الغنيمة والظفر ، ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة : الخيبة والانهزام ، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم ، والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين ، فإن المساءة بالحسنة ، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدلّ على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية ، ومعنى : (يَتَوَلَّوْا) يرجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ؛ ومواطن التحدّث ؛ حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين ، ومعنى قولهم : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي : احتطنا لأنفسنا ، وأخذنا بالحزم ، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة ، ثم لما قالوا هذا القول ؛ أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بأن يجيب عليهم بقوله : (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي : في اللوح المحفوظ ، أو في كتابه المنزّل علينا ، وفائدة هذا الجواب : أن الإنسان إذا علم أن ما قدّره الله كائن ، وأن كل ما ناله من خير أو شرّ إنما هو بقدر الله وقضائه ؛ هانت عليه المصائب ، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء ، وتشفي الحسدة (هُوَ مَوْلانا) أي : ناصرنا ، وجاعل العاقبة لنا ، ومظهر دينه على جميع الأديان ، والتوكل على الله : تفويض الأمور إليه ؛ والمعنى : أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصا بالله سبحانه ، لا يتوكلون على غيره. وقرأ طلحة بن مصرف يصيبنا بتشديد الياء. وقرأ أعين قاضي الري يصيبنا بنون مشدّدة ، وهو لحن لأن الخبر لا يؤكد ، وردّ بمثل قوله تعالى : (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١) وقال الزجاج : معناه لا يصيبنا إلّا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة ، وعلى هذا القول يكون قوله : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) تكريرا لغرض التأكيد ، والأوّل أولى ، حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيدا لفائدة غير فائدة الآخر ، والتأسيس خير من التأكيد ، ومعنى : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين؟ إما النصرة أو الشهادة ، وكلاهما مما يحسن لدينا ، والحسنى : تأنيث الأحسن ، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى المساءتين لكم : إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) أي : قارعة نازلة من السماء فيسحتكم بعذابه ، (أَوْ) بعذاب لكم (بِأَيْدِينا) أي : بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي. والفاء في : فتربصوا ، فصيحة ، والأمر للتهديد كما في قوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٢) أي : تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا ، فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فستنظرون عند ذلك ما يسرّنا ويسوءكم. وقرأ البزي وابن فليح : (هَلْ تَرَبَّصُونَ) بإظهار اللام وتشديد التاء. وقرأ الكوفيون : بإدغام اللام في التاء. وقرأ الباقون : بإظهار اللام وتخفيف التاء. قوله : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) هذا الأمر معناه الشرط والجزاء ، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم ، والتقدير : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم ؛ وقيل : هو أمر في معنى الخبر ، أي : أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ، فهو كقوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول ، وانتصاب طوعا أو كرها : على الحال ، فهما مصدران في موقع المشتقين ، أي : أنفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين
__________________
(١). الحج : ١٥.
(٢). الدخان : ٤٩.