يفعلون هذه الأفاعيل ، فعوتب صلىاللهعليهوسلم على تسرّعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب ، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) الآية ، وقال في سورة الفتح : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) إلى قوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) (١). قوله : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي : لقد طلبوا الإفساد ، والخبال ، وتفريق كلمة المؤمنين ، وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها. كما وقع من عبد الله ابن أبي وغيره (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). قوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي : صرّفوها من أمر إلى أمر ، ودبروا لك الحيل والمكائد ، ومنه قول العرب : «حوّل قلّب» إذا كان دائرا حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره. وقرئ (وَقَلَّبُوا) بالتخفيف (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي : إلى غاية هي مجيء الحق ، وهو النصر لك والتأييد (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) بإعزاز دينه ، وإعلاء شرعه ، وقهر أعدائه ؛ وقيل : الحق : القرآن ، (وَهُمْ كارِهُونَ) أي : والحال أنهم كارهون لمجيء الحق ، وظهور أمر الله ، ولكن كان ذلك على رغم منهم (وَمِنْهُمْ) أي : من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) لرسول الله صلىاللهعليهوسلم (ائْذَنْ لِي) في التخلف عن الجهاد (وَلا تَفْتِنِّي) أي : لا توقعني في الفتنة : أي الإثم إذا لم تأذن لي ، فتخلفت بغير إذنك ؛ وقيل معناه : لا توقعني في الهلكة بالخروج (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي : في نفس الفتنة سقطوا ، وهي فتنة التخلف عن الجهاد ، والاعتذار الباطل. والمعنى : أنهم ظنّوا : أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة ، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة. وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها ، وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل ، وذلك أشدّ من مجرّد الدخول في الفتنة ، ثم توعدهم على ذلك فقال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : مشتملة عليهم من جميع الجوانب ، لا يجدون عنها مخلصا ، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال.
وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن جرير عن عمرو بن ميمون قال : اثنتان فعلهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يؤمر فيهما بشيء : إذنه للمنافقين ، وأخذه من الأسارى ، فأنزل الله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله قال : سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة ، فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) الآية ، قال : ناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) الثلاث الآيات ، قال : نسخها : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) (٢). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه عنه في قوله : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، قال : هذا تعبير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر ، وعذر الله المؤمنين فقال : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ). وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عنه أيضا في قوله : (لا يَسْتَأْذِنُكَ)
__________________
(١). الفتح : ١٥.
(٢). النور : ٦٢.