كما في كتبت بيدي ، ومشيت برجلي ، ومنه قوله تعالى : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١). قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٢). وقال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه ، والألسن إلا وكان قولا زورا كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٣) ، وقوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (٤) ، وقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٥). قوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) المضاهاة : المشابهة ، قيل : ومنه قول العرب : امرأة ضهياء : وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال. قال أبو عليّ الفارسي : من قال : يضاهون مأخوذ من قولهم : امرأة ضهياء فقوله خطأ ، لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وأصله : يضاهئون ، وامرأة ضهياء. ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم : الأوّل : أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم : اللات والعزى ومناة بنات الله. القول الثاني : أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين : إنّ الملائكة بنات الله ، الثالث : أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيز ابن الله وأن المسيح ابن الله. قوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالهلاك ، لأن من قاتله الله هلك ؛ وقيل : هو تعجب من شناعة قولهم ؛ وقيل : معنى قاتلهم الله : لعنهم الله ، ومنه قول أبان بن تغلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت |
|
أنّي لنفسي إفسادي وإصلاحي |
وحكى النقاش أن أصل «قاتل الله» : الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشرّ وهم لا يريدون الدعاء ، وأنشد الأصمعي :
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني |
|
وأخبر النّاس أنّي لا أباليها |
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل. قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) الأحبار : جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول ، ومنه ثوب محبّر ؛ وقيل : جمع حبر بكسر الحاء ، قال يونس : لم أسمعه إلا بكسر الحاء. وقال الفراء : الفتح والكسر لغتان. وقال ابن السكيت : الحبر بالكسر : المداد ، والحبر بالفتح العالم. والرهبان : جمع راهب ، مأخوذ من الرهبة ، وهم علماء النصارى ، كما أن الأحبار علماء اليهود. ومعنى الآية : أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه ؛ كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا ، لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب. قوله : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) معطوف على رهبانهم ، أي : اتخذه النصارى ربا معبودا ، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزير ربا معبودا. وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله ، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسّنّة المطهّرة ، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستنّ بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص ، وقامت به حجج الله وبراهينه ، ونطقت به كتبه وأنبياؤه ، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، للقطع بأنهم لم يعبدوهم ، بل أطاعوهم ، وحرّموا ما حرّموا ، وحللوا ما حللوا. وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة ، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة ،
__________________
(١). البقرة : ٧٩.
(٢). الأنعام : ٣٨.
(٣). آل عمران : ١٦٧.
(٤). الكهف : ٥.
(٥). الفتح : ١١.