الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، أي : تخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية ، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه ، فقال : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : هو أحق بالخشية منكم ، فإنه الضارّ النّافع بالحقيقة ، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله ، فإن قضية الإيمان توجب ذلك عليكم ، ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال : (قاتِلُوهُمْ) ورتّب على هذا الأمر فوائد : الأولى : تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر ؛ والثانية : إخزاؤهم ، قيل : بالأسر ، وقيل : بما نزل بهم من الذل والهوان ؛ والثالثة : نصر المسلمين عليهم ، وغلبتهم لهم ؛ والرابعة : أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممّن لم يشهد القتال ولا حضره ؛ والخامسة : أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين ، الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ ، وحرج الصدر. فإن قيل : شفاء الصدور ، وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى ، فيكون تكرارا. قيل في الجواب : إن القلب أخصّ من الصدر ، وقيل : إن شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح ، ولا ريب أن الانتظار لإنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر ، وأنّ إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح ، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها ، ثم قال : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) وهو ابتداء كلام يتضمن الإخبار بما سيكون ، وهو أن بعض الكافرين يتوب عن كفره ، كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح ، فإنهم أسلموا ، وحسن إسلامهم ، وهذا على قراءة الرفع في يتوب ، وهي قراءة الجمهور ، وقرئ بنصب يتوب بإضمار أن ، ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى. قرأ بذلك ابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي والأعرج ، فإن قيل : كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ وأجيب بأن القتال قد يكون سببا لها ، إذا كانت من جهة الكفار ، وأما إذا كانت من جهة المسلمين ؛ فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سببا لخلوص النية ، والتوبة عن الذنوب ، قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) أم هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل ، والهمزة والاستفهام للتوبيخ ، وحرف الإضراب للدلالة على الانتقال من كلام إلى آخر ، والمعنى : كيف يقع الحسبان منكم بأن تتركوا على ما أنتم عليه ، وقوله : (أَنْ تُتْرَكُوا) في موضع مفعولي الحسبان عند سيبويه ، وقال المبرد : إنه حذف الثاني ، والتقدير : أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب ، وجملة (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) في محل نصب على الحال ، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم ، والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص ، وجملة (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي ، واقعة في حيز الصلة ، والوليجة من الولوج : وهو الدخول ، ولج يلج ولوجا : إذ دخل ، فالوليجة : الدخيلة. قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة. قال أبان بن تغلب :
فبئس الوليجة للهاربي |
|
ن والمعتدين وأهل الرّيب |
وقال الفراء : الوليجة : البطانة من المشركين ، والمعنى واحد ؛ أي : كيف تتّخذون دخيلة ، أو بطانة من المشركين تفشون إليهم بأسراركم ، وتعلمونهم أموركم من دون الله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : بجميع أعمالكم.