إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))
الاستثناء بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) قال الزّجّاج : إنه يعود إلى قوله (بَراءَةٌ) والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم. وقال في الكشاف : إنه مستثنى من قوله (فَسِيحُوا) والتقدير : فقولوا لهم : فسيحوا إلا الذين عاهدتم ، ثم لم ينقصوكم ، فأتموا إليهم عهدهم. قال : والاستثناء : بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل ـ بعد أن أمروا في الناكثين ـ : ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم. وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه ، وهو (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) إلخ. وأجيب : بأن ذلك لا يضرّ ، لأنه ليس بأجنبي ؛ وقيل : إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله ، فيكون متصلا وهو ضعيف. قوله : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي : لم يقع منهم أيّ نقص. وإن كان يسيرا ، وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار ينقضوكم بالضاد المعجمة ؛ أي : لم ينقضوا عهدكم ، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ، ومنهم من ثبت عليه ، فأذن الله سبحانه لنبيه صلىاللهعليهوسلم بنقض عهد من نقض ، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدّته (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) المظاهرة : المعاونة ، أي : لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) أي : أدّوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص (إِلى مُدَّتِهِمْ) التي عاهدتموهم إليها ، وإن كانت أكبر من أربعة أشهر ، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدّة المذكورة سابقا ، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوما على الخلاف السابق. قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) انسلاخ الشهر : تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي ، كانسلاخ الجلد عمّا يحويه. شبّه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه ، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده ، فاستعير لانقضاء الأشهر ، يقال : سلخت الشهر تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى : خرجت منه ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما سلخت الشّهر أهللت مثله |
|
كفى قاتلا سلخي الشّهور وإهلالي |
ويقال : سلخت المرأة درعها : نزعته ، وفي التنزيل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١).
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا ، فقيل : هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ، ومحرّم ، ورجب : ثلاثة سرد ، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير ؛ وقيل : المراد بها : شهور العهد المشار إليه بقوله (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) وسمّيت حرما لأن الله سبحانه حرّم على المسلمين فيها دماء المشركين ، والتعرّض لهم ، وإلى هذا ذهب جماعة
__________________
(١). يس : ٣٧.