والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة ، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة ، وما جاءت به رسل الله ، وإن كانوا يسمعون غير ذلك ، والإشارة بقوله (أُولئِكَ) إلى هؤلاء المتّصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر ، ثم حكم عليهم بأنّهم أضلّ منها ، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها فتنتفع بما ينفع ، وتجتنب ما يضرّ ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به ، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) قال : خلقنا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : خلقنا لجهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجّار عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله لما ذرأ لجهنّم من ذرأ كان ولد الزّنا ممّن ذرأ لجهنم». وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) قال : لقد خلقنا لجهنم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) قال : لا يفقهون شيئا من أمور الآخرة (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الهدى (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الحق ، ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شرا من الأنعام ، فقال : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) ثم أخبر أنّهم الغافلون.
(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))
هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التّفصيل ، والحسنى تأنيث الأحسن ؛ أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمّى وأشرف مدلول ، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة ؛ فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة ، وقد ثبت في الصحيح «إنّ لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة» وسيأتي ، ويأتي أيضا بيان عددها آخر البحث إن شاء الله. قوله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الإلحاد : الميل وترك القصد ، يقال : لحد الرجل في الدين وألحد : إذا مال ، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحية ، وقرئ (يُلْحِدُونَ) وهما لغتان ، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه ، إما بالتغيير كما فعله المشركون ، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله ، والعزّى من العزيز ، ومناة من المنان ؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها ، أو بالنقصان منها ، بأن يدعوه ببعضها دون بعض. ومعنى (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال ؛ وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١) وقوله (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) (٢) وهذا أولى لقوله (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم. وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم ، فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو ربّين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي.
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن
__________________
(١). المدثر : ١١.
(٢). الحجر : ٣.