مِنْها) فقيل : هو بلعم بن باعوراء ، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة ؛ وقيل : كان قد أوتي النبوّة وكان مجاب الدعوة ، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان ، فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به ، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين ، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى ، فقام ليدعو عليه فتحوّل لسانه بالدعاء على أصحابه ، فقيل له في ذلك فقال : لا أقدر على أكثر مما تسمعون ، واندلع لسانه على صدره فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، وسأمكر لكم ، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا ، فإن وقعوا فيه هلكوا ، فوقع بنو إسرائيل في الزنا ، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا ؛ وقيل : إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل ؛ وقيل : المراد به أمية بن أبي الصّلت الثّقفي ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله مرسل رسولا في ذلك ؛ فلما أرسل الله محمدا صلىاللهعليهوسلم حسده وكفر به ؛ وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية ، فكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلىاللهعليهوسلم فكفروا بها ، وقيل : نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلىاللهعليهوسلم فكفروا به. قوله (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي : من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) عند انسلاخه عن الآيات ، أي : لحقه فأدركه وصار قرينا له ، أو فأتبعه خطواته ، وقرئ (فَأَتْبَعَهُ) بالتشديد بمعنى تبعه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) المتمكنين في الغواية وهم الكفار. قوله (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات ، والمعنى : لو شئنا رفعه بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها ، أي : بسببها ، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها ؛ وقيل المعنى : ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها ، أي : بالعمل بها (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أصل الإخلاد : اللزوم ، يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه ، والمعنى هنا : أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله ، وهو حطام الدنيا ؛ وقيل : كان هواه مع الكفار ؛ وقيل : اتبع رضا زوجته ، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله. قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي : فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة ، مماثلا له في أقبح أوصافه ، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه ، فهو لاهث سواء زجر أو ترك ، طرد أو لم يطرد ، شدّ عليه أو لم يشد عليه ، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء ، وجملة (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) في محل نصب على الحال ، أي : مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة ، والمعنى : أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه وذكره المذكر ، وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك. قال القتبي : كلّ شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال ، وحال الراحة ، وحال المرض ، وحال الصحة ، وحال الري ، وحال العطش ، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته ؛ فقال : إن وعظته ضلّ وإن تركته ضلّ ، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ