أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم وقوّة نهمتهم ، والأدنى : مأخوذ من الدنوّ ، وهو القرب ، أي : يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى ، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السّحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله ، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها ؛ وقيل : إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط ، أي : إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) أي : يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق ، وجملة (يَأْخُذُونَ) يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم ، أو في محل نصب على الحال ، وجملة (يَقُولُونَ) معطوفة عليها ، والمراد بهذا الكلام : التقريع والتوبيخ لهم ، وجملة (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) في محل نصب على الحال ، أي : يتعللون بالمغفرة ، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة ؛ وقيل : الضمير في (يَأْتِهِمْ) ليهود المدينة ، أي : وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلىاللهعليهوسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي : التوراة (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وجملة (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) معطوفة على (يُؤْخَذْ) على المعنى ، وقيل : على (وَرِثُوا الْكِتابَ) ، والأولى أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى : أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب ، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه ، فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل ، وذلك أشدّ ذنبا وأعظم جرما. وقيل : معنى (دَرَسُوا ما فِيهِ) أي : محوه بترك العمل به ، والفهم له ، من قولهم درست الريح الآثار : إذا محتها (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الله ويجتنبون معاصيه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعلمون بهذا وتفهمونه ، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره قوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) قرأ الجمهور (يُمَسِّكُونَ) بالتشديد من مسك وتمسك ، أي : استمسك بالكتاب : وهو التوراة. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر بالتخفيف من أمسك ويمسك. وروي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ مسكوا والمعنى : أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدّم ذكره ، وطائفة يتمسكون بالكتاب ، أي : التوراة ، ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم ، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله ، والموصول : مبتدأ ، و (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) خبره ، أي : لا نضيع أجر المصلحين منهم ، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها ، فكان ذلك وجها لتخصيصها بالذكر ؛ وقيل : لأنها تقام في أوقات مخصوصة ، والتمسك بالكتاب مستمرّ فذكرت لهذا ، وفيه نظر. فإن كل عبادة في الغالب تختصّ بوقت معين ، ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على الموصول الذي قبله وهو للذين يتقون ، ولكون (أَفَلا تَعْقِلُونَ) جملة معترضة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) قال : محمد وأمته إلى يوم القيامة ، وسوء العذاب : الجزية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ