الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))
قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) معطوف على ما قبله ، أي : واسألهم وقت تأذن ربك ، وتأذن : تفعل ، من الإيذان ، وهو الإعلام. قال أبو علي الفارسي : آذن بالمد : أعلم ، وأذّن بالتشديد : نادى. وقال قوم : كلاهما بمعنى أعلم كما يقال أيقن وتيقّن. والمعنى في الآية : واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) قيل : وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي : ليرسلنّ عليهم ويسلطن كقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) (١) ، (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم ، وقد كانوا أبقاهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل ، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار ، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى (يَسُومُهُمْ) يذيقهم ، وقد تقدّم بيان أصل معناه ، ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الغفران والرحمة (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : فرّقناهم في جوانبها ، أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة ، و (أُمَماً) منتصب على الحال ، أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا ، وجملة (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) بدل من (أُمَماً) ، قيل : هم الذين آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدّل ، وقيل : هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدّم بيانه قبل هذا (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي : دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح ، ومحل (دُونَ ذلِكَ) الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : ومنهم أناس دون ذلك ، والمراد بهؤلاء : هم من لم يؤمن ، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به. قال النحاس : (دُونَ) منصوب على الظرف ، ولا نعلم أحدا رفعه (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي : امتحناهم بالخير والشرّ رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام : البدل ولدا كان أو غيره. قال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالسكون : الطالح. قال لبيد :
ذهب الّذين يعاش في أكنافهم |
|
وبقيت في خلف كجلد الأجرب |
ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون ، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، ومنه قول حسان بن ثابت :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا |
|
لأوّلنا في طاعة الله تابع |
(وَرِثُوا الْكِتابَ) أي : التوراة من أسلافهم يقرءونها ولا يعملون بها (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى)
__________________
(١). الإسراء : ٥.