في أن يثبّتنا على الإيمان ، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ، ويتمّ علينا نعمته ، ويعصمنا من نقمته. قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتاحة : الحكومة ، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين ، دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقّين على المبطلين ؛ كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه ، فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكفرين وحلول نقمة الله بهم (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) معطوف على (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك ، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب. واللام في (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) موطئة لجواب قسم محذوف ، أي : دخلتم في دينه وتركتم دينكم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط ، وخسرانهم : هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي : الزلزلة ؛ وقيل : الصيحة كما في قوله : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (١) (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) قد تقدم تفسيره في قصة صالح. قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة ، والموصول : مبتدأ ، وكأن لم يغنوا : خبره ؛ يقال : غنيت بالمكان إذا أقمت به ، وغني القوم في دارهم أي : طال مقامهم فيها ، والمغني : المنزل ؛ والجمع : المغاني. قال حاتم الطائي :
غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى |
|
كما الدّهر في أيامه العسر واليسر |
كسبنا صروف الدّهر لينا وغلظة |
|
وكلّا سقاناه بكأسهما الدّهر |
فما زادنا بغيا على ذي قرابة |
|
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر |
ومعنى الآية : الذين كذّبوا شعيبا كأن لم يقيموا في دارهم ؛ لأنّ الله سبحانه استأصلهم بالعذاب ، والموصول في الذين كذبوا شعيبا مبتدأ ، خبره (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) ، وهذه الجملة مستأنفة كالأولى ، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) التي أرسلني بها إليكم (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم (فَكَيْفَ آسى) أي : أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) بالله مصرّين على كفرهم متمردين عن الإجابة أو الأسى : شدة الحزن ، آسى على ذلك : فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسّرا على عدم إيمان قومه ، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن عكرمة والسدي قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا : مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قال : لا تظلموا الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قال : لا تظلموهم (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : كانوا يوعدون من أتى شعيبا وأراد الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قال : كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم
__________________
(١). هود : ٩٤.