إلى كل صراط أو إلى شعيب ، (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي : تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة ، وقد سبق الكلام على العوج. قال الزجاج : كسر العين في المعاني وفتحها في الإجرام (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ) أي : وقت كنتم (قَلِيلاً) عددكم (فَكَثَّرَكُمْ) بالنسل ؛ وقيل : كنتم فقراء فأغناكم (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم الماضية ، فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم (وَطائِفَةٌ) منكم (لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم. وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر. وحكم الله بين الفريقين : هو نصر المحقين على المبطلين ، ومثله قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١) أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : قال الأشراف المستكبرون (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ) لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه ، بل جاوزوا ذلك بغيا وبطرا وأشرا إلى توعد نبيهم ومن آمن به الإخراج من قريتهم أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية ، أي : لا بدّ من أحد الأمرين : إما الإخراج ، أو العود. قال الزجاج : يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء ، يقال : عاد إليّ من فلان مكروه ، أي : صار ، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك ، فلا يرد ما يقال : كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولا؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم ، وجملة (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) مستأنفة ، جواب عن سؤال مقدّر ، والهمزة : لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود ، والواو للحال ، أي : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها ، أو : أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها ، أو في الحال كراهتنا للأمرين جميعا ، والمعنى : إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصح لكم ذلك ، فإنّ المكره لا اختيار له ولا تعدّ موافقته مكرها : موافقة ، ولا عوده إلى ملتكم مكرها عودا ، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام ، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) التي هي الشرك (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلا (وَما يَكُونُ لَنا) أي : ما يصح لنا ، ولا يستقيم (أَنْ نَعُودَ فِيها) بحال من الأحوال (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إلا حال مشيئته سبحانه ، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزّجّاج : أي إلا بمشيئة الله عزوجل ، قال : وهذا قول أهل السّنّة ، والمعنى : أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك ، فالاستثناء منقطع ؛ وقيل : إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزوجل كما في قوله : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) (٢) وقيل : هو كقولهم : لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب ، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، والغراب لا يبيض ، والجمل لا يلج ، فهو من باب التعليق بالمحال. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء ، وعلما منصوب على التمييز ؛ وقيل : المعنى (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) أي : القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) عودنا إليها (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي : عليه اعتمدنا
__________________
(١). التوبة : ٢٥.
(٢). هود : ٨٨.