في موضع نصب ، أي : واتل أنّ هذا صراطي ، قاله الفراء والكسائي. قال الفرّاء : ويجوز أن يكون خفضا ؛ أي وصّاكم به ، وبأن هذا. وقال الخليل وسيبويه : إنّ التقدير : ولأن هذا صراطي مستقيما كما في قوله سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) (١). وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَأَنَّ هذا) بكسر الهمزة على الاستئناف ، والتقدير : الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وإن هذا صراطي بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وهذا صراطي وفي مصحف عبد الله بن مسعود وهذا صراط ربكم وفي مصحف أبيّ وهذا صراط ربّك والصراط : الطريق ، وهو طريق دين الإسلام ، ونصب مستقيما على الحال ، والمستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه ، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتّباع سائر السّبل ، أي : الأديان المتباينة طرقها (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) أي تميل بكم (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية : وهذه السبل تعمّ اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشّذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمّق في الجدل والخوض في الكلام.
هذه كلّها عرضة للزّلل ومظنّة لسوء المعتقد ، والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم ، وهو مبتدأ وخبره (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي : أكد عليكم الوصية به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما نهاكم عنه.
وقد أخرج الترمذي وحسّنه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا (قُلْ تَعالَوْا) إلى ثلاث آيات ، ثم قال : فمن وفي بهنّ فأجره على الله ، ومن انتقص منهنّ شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه». وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضّريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال : أوّل ما أنزل في التوراة عشر آيات ، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخرها. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله ابن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : سمع كعب رجلا يقرأ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فقال كعب : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة : بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات انتهى. قلت : هي الوصايا العشر التي في التوراة ، وأوّلها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري. ومنها : أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على قريبك شهادة زور ، ولا تشته بنت قريبك ، ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ، فلعل مراد كعب الأحبار هذا ؛ ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم ، وأهل الإنجيل في أوّل إنجيلهم. وهي مكتوبة في لوحين ، وقد تركنا منها ما يتعلّق بالسبت. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) قال : من خشية الفاقة ، قال : وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما
__________________
(١). الجن : ١٨.