الحق ، والاستثناء مفرّغ ؛ أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق ، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، ومن الحق : قتلها قصاصا وقتلها بسبب زنا المحصن ، وقتلها بسبب الردّة ، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشّرع بها ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم مما تلاه عليهم ، وهو مبتدأ ، و (وَصَّاكُمْ بِهِ) خبره ، أي : أمركم به ، وأوجبه عليكم (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي : لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إِلَّا) الخصلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من غيرها ، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته ، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله ؛ وقيل : المراد بالتي هي أحسن : التجارة (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي : إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشدّه ، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله ، كما قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١).
واختلف أهل العلم في الأشدّ ؛ فقال أهل المدينة : بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة : خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو البلوغ. وقيل : إنه انتهاء الكهولة ، ومنه قول سحيم الرّياحي :
أخو خمسين مجتمع أشدّي |
|
ونجّدني مداورة الشّؤون |
والأولى في تحقيق بلوغ الأشد : أنه البلوغ إلى سنّ التكليف مع إيناس الرشد ، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكا مسلك العقلاء ، لا مسلك أهل السفه والتبذير ، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) فجعل بلوغ النكاح ، وهو بلوغ سنّ التكليف مقيدا بإيناس الرشد ، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا ، والأشد : واحد لا جمع له ؛ وقيل : واحده شدّ كفلس وأفلس وأصله من شدّ النهار : أي ارتفع. وقال سيبويه : واحده شدة. قال الجوهري : وهو حسن في المعنى ، لأنه يقال : بلغ الكلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف ، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن ، فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي : إذا قلتم بقول في خير أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحرّوا الصواب ، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد ، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو ، بل سوّوا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به ، والضمير في (وَلَوْ كانَ) راجع إلى ما يفيده (وَإِذا قُلْتُمْ) فإنه لا بد للقول من مقول فيه ، أو مقول له : أي ولو كان المقول فيه ، أو المقول له (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى : ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأوّل أولى ، ومثل هذه الآية قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٣). قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي أوفوا بكلّ عهد عهده الله إليكم ، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام ، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين ، لأنّ الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوّغا لإضافته إليه ، والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما تقدّم ذكره (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتتعظون بذلك. قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) أنّ
__________________
(١). النساء : ٦.
(٢). النساء : ٦.
(٣). النساء : ١٣٥.