الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله ، أي : لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدّم ذكره ما فعلوه وأوقعوه ؛ وقيل : ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم ، وهذا الأمر لتهديد للكفار كقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١) ، (وَما يَفْتَرُونَ) إن كانت ما مصدرية فالتقدير : اتركهم وافتراءهم ، وإن كانت موصولة فالتقدير : اتركهم والذي يفترونه. قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) اللام في لتصغى لام كي ، فتكون علة كقوله (يُوحِي) والتقدير. يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى ؛ وقيل : هو متعلق بمحذوف يقدر متأخرا ، أي : لتصغى (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ، وقيل : إن اللام للأمر وهو غلط ، فإنها لو كانت لام الأمر جزمت الفعل ، والإصغاء : الميل ، يقال : صغوت أصغو صغوا ، وصغيت أصغى ؛ ويقال : صغيت بالكسر ؛ ويقال أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه ، وأصله : الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض ، ويقال صغت النجوم : إذا مالت للغروب ، وأصغت الناقة : إذا أمالت رأسها ، ومنه قول ذي الرّمّة :
تصغي إذا شدّها بالكور جانحة |
|
حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب |
والضمير في (إِلَيْهِ) لزخرف القول ، أو لما ذكر سابقا من زخرف القول وغيره : أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من الكفار (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم بعد الإصغاء إليه (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام ، والاقتراف : الاكتساب ؛ يقال : خرج ليقترف لأهله : أي ليكتسب لهم ، وقارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه ، وقرفه : إذا رماه بالريبة ، واقترف : كذب ، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : نزلت (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في قريش (وَما يُشْعِرُكُمْ) يا أيها المسلمون (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ). وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كلّم رسول الله صلىاللهعليهوسلم قريشا فقالوا : يا محمد! تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود لهم ناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدّقك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أي شيء تحبون أن آتيكم به»؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا ، قال : «فإن فعلت تصدقوني»؟ قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال له : إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال : «بل يتوب تائبهم» ، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إلى قوله : (يَجْهَلُونَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) قال : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردّت عن كل أمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) قال : معاينة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي أهل الشقاء (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي أهل السّعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً)
__________________
(١). المدثر : ١١.