الدلالة على قدرة الله وعظمته وبديع حكمته. قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم عليهالسلام كما تقدّم ، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنّخعي بكسر القاف والباقون بفتحها ، وهما مرفوعان على أنهما مبتداءان وخبرهما محذوف ، والتقدير : فمنكم مستقرّ أو فلكم مستقرّ ، التقدير الأوّل على القراءة الأولى ، والثاني على الثانية : أي فمنكم مستقرّ على ظهر الأرض ، أو فلكم مستقرّ على ظهرها ، ومنكم مستودع في الرّحم أو في باطن الأرض أو في الصلب ؛ وقيل : المستقرّ في الرحم ، والمستودع في الأرض ؛ وقيل : المستقرّ في القبر. قال القرطبي : وأكثر أهل التفسير يقولون : المستقرّ ما كان في الرحم ، والمستودع ما كان في الصلب ؛ وقيل : المستقرّ من خلق ، والمستودع من لم يخلق ؛ وقيل : الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث.
ومما يدل على تفسير المستقرّ بالكون على الأرض قول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١) ، وذكر سبحانه هاهنا (يَفْقَهُونَ) وفيما قبله (يَعْلَمُونَ) لأنّ في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقرّا وبعضها مستودعا من الغموض والدّقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء ، فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تدقيق وإمعان فكر. قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته. والماء هو ماء المطر ، وفي (فَأَخْرَجْنا بِهِ) التفات من الغيبة إلى التكلّم إظهارا للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه ، والضمير في (بِهِ) عائد إلى الماء ، و (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة ؛ وقيل : المعنى رزق كل شيء ، والتفسير الأوّل أولى. ثم فصل هذا الإجمال فقال : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) قال الأخفش : أي أخضر. والخضر : رطب البقول ، وهو ما يتشعّب من الأغصان الخارجة من الحبة ؛ وقيل : يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا) هذه الجملة صفة لخضرا : أي نخرج من الأغصان الخضر حبا متراكبا : أي مركبا بعضه على بعضه كما في السنابل (وَمِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم ، و (مِنْ طَلْعِها) بدل منه ، وعلى قراءة من قرأ يخرج منه حبّ يكون ارتفاع قنوان على أنه معطوف على حب ، وأجاز الفراء في غير القرآن قنوانا عطفا على حبا ، وتميم يقولون قنيان. وقرئ بضم القاف وفتحها باعتبار اختلاف اللغتين ، لغة قيس ، ولغة أهل الحجاز. والطلع : الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض (٢) ، والإغريض يسمى طلعا أيضا. والقنوان : جمع قنو ، والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون ، والجمع على ما يقتضيه الإعراب ، ومثله صنوان. والقنو : العذق. والمعنى : أن القنوان أصله من الطلع. والعذق هو عنقود النخل ، وقيل القنوان : الجمار. والدانية : القريبة التي ينالها القائم والقاعد. قال الزجاج : المعنى : منها دانية ، ومنها بعيدة فحذف ، ومثله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٣) وخصّ الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان ، وذلك فيما يقرب تناوله أكثر. قوله : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ)
__________________
(١). البقرة : ٣٦.
(٢). قال في القاموس : الطّلع من النخيل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان وقشره يسمى الكفري وما في داخله الإغريض لشدة بياضه.
(٣). النحل : ٨١.