الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (١) وقيل : إن ذلك صدر ممن كان معهم ، وقيل : إنهم لم يشكّوا في استطاعة الباري سبحانه ، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك ، وإنما هو كقول الرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي؟ مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه ؛ فالمعنى : هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه؟ وقيل : إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليهالسلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٢) الآية ، ويدل على هذا قولهم من بعد (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) وأما على القراءة الأولى ، فالمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك. قال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٣) ، و (مائِدَةً) : الخوان إذا كان عليه الطعام ، من مادة : إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه قاله قطرب وغيره ؛ وقيل : هي فاعلة بمعنى مفعولة ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٤) قاله أبو عبيدة. فأجابهم عيسى عليهالسلام بقوله : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم ، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة ، وقيل : إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه. قوله : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة ، وكذا ما عطف عليه من قولهم : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) والمعنى : تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله ، أو بأنك مرسل إلينا من عنده ، أو بأنّ الله قد أجابنا إلى ما سألناه ، ونعلم علما يقينا بأنك قد صادقتنا في نبوّتك ، ونكون عليها من الشّاهدين : عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشّاهدين لله بالوحدانية ، أو من الشّاهدين : أي الحاضرين دون السّامعين. ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي كائنة أو نازلة من السماء ، وأصل اللهمّ عند سيبويه وأتباعه : يا الله ، فجعلت الميم بدلا من حرف النداء ، وربنا نداء ثان ، وليس بوصف ، و (تَكُونُ لَنا عِيداً) وصف لمائدة. وقرأ الأعمش يكون لنا عيدا أي يكون نزولها لنا عيدا. وقد كان نزولها يوم الأحد ، وهو يوم عيد لهم ؛ والعيد واحد الأعياد ، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ؛ وقيل : للفرق بينه وبين أعواد جمع عود ، ذكر معناه الجوهري ، وقيل : أصله من عاد يعود : أي رجع فهو عود بالواو ، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد ، فقيل : ليوم الفطر والأضحى عيدان ، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل : العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل : أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله : (وَآيَةً مِنْكَ) عطف على عيدا ، أي دلالة وحجّة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته (وَارْزُقْنا) أي : أعطنا هذه المائدة المطلوبة ، أو ارزقنا رزقا نستعين به على عبادتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك ، فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليهالسلام فقال : (إِنِّي مُنَزِّلُها) أي المائدة (عَلَيْكُمْ).
وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل وهو الحق لقوله سبحانه : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد. وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب
__________________
(١). آل عمران : ٥٢.
(٢). البقرة : ٢٦٠.
(٣). يوسف : ٨٢.
(٤). الحاقة : ٢١.