قوله : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ذكّره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه ـ مع كونه ذاكرا لها عالما بتفضل الله سبحانه بها ـ لقصد تعريف الأمم بما خصّهما الله به من الكرامة وميزهما به من علوّ المقام ، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه ، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء. قوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) إذ ظرف للنعمة لأنها بمعنى المصدر : أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك ، أو حال من النعمة : أي كائنة ذلك الوقت (أَيَّدْتُكَ) قوّيتك مأخوذ من الأيد ، وهو القوّة. وفي روح القدس وجهان : أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها ، وقيل : إنه جبريل عليهالسلام ، وقيل : إنه الكلام الذي يحيي به الأرواح. والقدس : الطهر ، وإضافته إليه لكونه سببه ، وجملة (تُكَلِّمُ النَّاسَ) مبينة لمعنى التأييد ، و (فِي الْمَهْدِ) في محل نصب على الحال : أي تكلم الناس حال كونك صبيا وكهلا لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتا بينا. وقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) معطوف على (إِذْ أَيَّدْتُكَ) أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب : أي جنس الكتاب ، أو المراد بالكتاب الخطّ ، وعلى الأوّل يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام ، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما : أما التوراة فقد كان يحتجّ بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرّح بذلك في الإنجيل ، وأما الإنجيل فلكونه نازلا عليه من عند الله سبحانه ، والمراد بالحكمة جنس الحكمة ؛ وقيل : هي الكلام المحكم (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي : تصوّر تصويرا مثل صورة الطير (بِإِذْنِي) لك بذلك وتيسيري له (فَتَنْفُخُ) في الهيئة المصوّرة (فَتَكُونُ) هذه الهيئة (طَيْراً) متحركا حيا كسائر الطيور (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) لك وتسهيله عليك وتيسيره لك ، وقد تقدّم تفسير هذا مطوّلا في البقرة فلا نعيده (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم فيكون ذلك آية لك عظيمة (بِإِذْنِي) ، وتكرير بإذني في المواضع الأربعة للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليهالسلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه. قوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ) معطوف على (إِذْ تُخْرِجُ) كففت معناه : دفعت وصرفت (بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) حين هموا بقتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين ، لما عظم ذلك في صدرهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية ، بل نسبوه إلى السحر. قوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) هو معطوف على ما قبله ، وقد تقدّم تفسير ذلك. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام : أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم ؛ وقيل معناه : أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي. قوله : (قالُوا آمَنَّا) جملة مستأنفة كأنه قيل : ماذا قالوا؟ فقال : قالوا آمنا (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون للإيمان : أي واشهد يا رب ، أو واشهد يا عيسى.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :