لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله ؛ وقيل : إنه خطاب للمنافقين فقط ، كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب : (نَزَّلَ) بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). وقرأ حميد : بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون ، وقرأ الباقون : بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول. وقوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل ، وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل ، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة ، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. (فِي الْكِتابِ) : هو القرآن. وقوله : (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) حالان ، أي : إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله ، فأوقع السماع على الآيات. والمراد : سماع الكفر والاستهزاء. وقوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع والاستهزاء بآيات الله لا تعقدوا معهم ما داموا كذلك ، حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به ، فنهوا عن ذلك.
وفي هذه الآية ـ باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ـ دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى : قال إمام مذهبنا كذا ، وقال فلان من أتباعه : بكذا ، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ، ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل (٢) ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدّما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها ، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب [القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى ب [أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا بما علمتنا ، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة ، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين!
قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي ، أي : إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر. قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :
وكلّ قرين بالمقارن يقتدي (٣)
__________________
(١). الأنعام : ٦٨.
(٢). الفائل : رجل فائل الرأي ؛ أي : ضعيفه.
(٣). وصدر البيت : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه.