فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن ، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق ، فمنهم من صدّق النبيّ صلىاللهعليهوسلم واتبعه ، ومنهم من كفر.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))
أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ، ثم آمنت ثم كفرت ، ثم ازدادت كفرا بعد ذلك كله : أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ، ولا ليهديهم سبيلا يتوصلون به إلى الحق ، ويسلكونه إلى الخير ، لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ، ويؤمنوا إيمانا صحيحا ، فإن هذا الاضطراب منهم ـ تارة يدّعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمرّ والجحود الدائم ـ يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ، ليست لهم نية صحيحة ، ولا قصد خالص. قيل : المراد بهؤلاء : اليهود ، فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : آمنوا بموسى ، ثم كفروا به بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا به عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والمراد بالآية : أنهم ازدادوا كفرا ، واستمروا على ذلك ، كما هو الظاهر من حالهم ، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة ، والإسلام يجبّ ما قبله ، ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا ؛ كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا. قوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم ، وقد مرّ تحقيقه. وقوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) وصف للمنافقين ، أو منصوب على الذم ، أي : يجعلون الكفار أولياء لهم ، يوالونهم على كفرهم ، ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في محل نصب على الحال ، أي : يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة معترضة. قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين ، وجميع أنواع العزّة وأفرادها مختص بالله سبحانه ، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) والعزة : الغلبة ، يقال : عزّة يعزّه عزّا : إذا غلبه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق ،
__________________
(١). المنافقون : ٨.