تُعْرِضُوا) أي : عن تأدية الشهادة من الأصل (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : لما تعملون من الليّ والإعراض أو من كل عمل ، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه ، وقد روي أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود ، أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه ؛ وقيل : هي خاصة بالشهود. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه ، والخطاب هنا للمؤمنين جميعا (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) هو القرآن ، واللام للعهد (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هو كل كتاب ، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو وابن عامر : نزل وأنزل بالضم. وقرأ الباقون : بالفتح فيهما. وقيل : إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل : نزلت في المشركين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله ، وهما ضعيفان. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : بشيء من ذلك (فَقَدْ ضَلَ) عن القصد (ضَلالاً بَعِيداً) وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه ، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة ، فناسبه ذكر الرسل جملة ، وتقديم الملائكة على الرسل : لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) الآية ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم ، أو آبائهم ، أو أبنائهم ، لا يحابون غنيا لغناه ، ولا يرحمون مسكينا لمسكنته ، وفي قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) فتذروا الحق فتجوروا (وَإِنْ تَلْوُوا) يعني : بألسنتكم بالشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عنها. وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان يجلسان عند القاضي ، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : لما قدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة ؛ كانت البقرة أوّل سورة نزلت ؛ ثم أردفها سورة النساء ، قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه ، أو ذوي رحمه ، فيلوي بها لسانه ، أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر ، فيقضي حين يوسر ، فنزلت : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) يقول : تلوي لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض : الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس : «أنّ عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله! إنّا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن ، وبكلّ كتاب كان قبله. فقالوا : لا نفعل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) الآية». وينبغي النظر في صحة هذا ، فالثعلبي رحمهالله ليس من رجال الرواية ، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك : أهل الكتاب ، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ،