تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا ، وبه قال كثير من علماء الشريعة. ومنهم من قال : إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد : الصاعقة : نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة ومن قال بقولهم : إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب : (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول لأجله. وقال الفرّاء : منصوب على التمييز. والموت : ضدّ الحياة. والإحاطة : الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه. وقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) جملة مستأنفة كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد : يقارب. والخطف : الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطّافا لسرعته. وقرأ مجاهد : (يَخْطَفُ) بكسر الطاء والفتح أفصح.
وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) كلام مستأنف كأنه قيل : كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق وسكونه ، وهو تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) بالزيادة في الرعد والبرق : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا من جملة مقدوراته سبحانه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) هو المطر ضرب مثله في القرآن : (فِيهِ ظُلُماتٌ) يقول ابتلاء : (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) تخويف (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ، فإن أصاب الإسلام نكبة قالوا ارجعوا إلى الكفر [يقول (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا)] (١) كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (٢) الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه : أي فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه وقالوا : إن دين محمد صلىاللهعليهوسلم دين صدق واستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان
__________________
(١). مستدرك من تفسير الطبري (١ / ١٢٠)
(٢). الحج : ١١.