سبحانه أوّلا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد : أنهم أوتوا نصيبا منه ، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرّفوا وبدّلوا. وقوله : (مُصَدِّقاً) (١) منتصب على الحال. والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) يقال : نطمس بكسر الميم وضمها : لغتان في المستقبل ، ويقال : طمس الأثر ، أي : محاه كله ، ومنه (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) (٢) أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) (٣) أي : أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ؛ أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأوّل فالمراد بقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) نجعلها قفا ، أي : نذهب بآثار الوجه ، وتخطيطه ، حتى يصير على هيئة القفا ؛ وقيل : إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا ، والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد : الوعيد باق منتظر ، وقال : لا بدّ من طمس في اليهود ، ومسخ قبل يوم القيامة. قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ؛ وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان. والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن. وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت. قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي : كائنا موجودا لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى : أنه متى أراده كان ، كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤). قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٥) هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ، لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة. لا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته ؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزوجل ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، ما لم تكن كبيرته شركا بالله عزوجل. وظاهره : أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدّم قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٦) وهي تدل : على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، إذا كلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم لوى لسانه وقال : أرعنا
__________________
(١). المرسلات : ٨.
(٢). يونس : ٨٨.
(٣). يس : ٦٦.
(٤). يس : ٨٢.
(٥). النساء : ٤٨.
(٦). النساء : ٣١.