عطف على قوله : (يَشْتَرُونَ) مشارك له في بيان سوء صنيعهم ، وضعف اختيارهم ، أي : لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم : أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة اعتراضية ، (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) لكم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ، ولا تتولوا غيره ؛ ولا تستنصروه ، والباء في قوله : (بِاللهِ) في الموضعين : زائدة. قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال الزجاج : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله : (نَصِيراً) وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على نصيرا ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب سيبويه ، ومثله قول الشاعر :
لو قلت ما في قومها لم أيثم |
|
يفضلها في حسب وميسم |
قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف. وقال الفراء : المحذوف لفظ من ، أي : من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) أي من له ، ومنه قول ذي الرمة :
فظلّوا ومنهم دمعه سابق له |
|
وآخر يذري عبرة العين بالهمل (٢) |
أي : من دمعه ، وأنكره المبرّد والزجاج ، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة ؛ وقيل : إن قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بيان لقوله : (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ). والتحريف : الإمالة والإزالة ، أي : يميلونه ، ويزيلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ؛ أو المراد : أنهم يتأوّلونه على غير تأويله ، وذمهم الله عزوجل بذلك ، لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا ، وتأثيرا لغرض الدنيا. قوله : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي : اسمع حال كونك غير مسمع. وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروها ، أو اسمع غير مسمع جوابا. وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) : أنهم يلوونها عن الحق ، أي : يميلونها إلى ما في قلوبهم ، وأصل اللّي : القتل ، وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله. قوله : (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) معطوف على ليا ، أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبيا لعلم أنا نسبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم على ذلك (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا) قولك : (وَأَطَعْنا) أمرك (وَاسْمَعْ) ما نقول (وَانْظُرْنا) أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما قالوه ، (وَأَقْوَمَ) أي : أعدل وأولى من قولهم الأوّل ، وهو قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في راعنا ، (وَلكِنْ) لم يسلكوا المسلك الحسن ، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ، ولهذا : (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إلا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض ، وببعض الرسل دون بعض. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ذكر
__________________
(١). الصافات : ١٦٤.
(٢). بالهمل : هملان العين : فيضانها بالدمع. ويذري : يصيب.