فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤))
قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) التمني : نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف : نوع منها يتعلق بالماضي ، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه ، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة ، وفيه أيضا نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير.
وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي : أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه ، من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه. فذهب الجمهور : إلى جواز ذلك ، واستدلوا بالحديث الصحيح : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ، وقد بوّب عليه البخاري : «باب الاغتباط في العلم والحكم». وعموم لفظ الآية يقتضي : تحريم تمني ما وقع به التفضيل ؛ سواء كان مصحوبا بما يصير به من جنس الحسد أم لا ، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصا لهذا العموم ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ ، فيه تخصيص بعد التعميم ، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية : من أن أمّ سلمة قالت : يا رسول الله! يغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت. أخرجه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي ، وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة. والمعنى في الآية : أن الله جعل لكل من الفريقين نصيبا على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته ، وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الاستعارة التبعية ، شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه. قال قتادة : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب ، وللنساء كذلك. وقال ابن عباس : المراد بذلك : الميراث ، والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرنا. قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) وتوسيط التعليل بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ. بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي ، وهذا الأمر يدل : على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله ، كما قاله جماعة من أهل العلم. قوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي : جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه ، فلكل : مفعول ثان قدّم على الفعل لتأكيد الشمول ، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، أي : ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمنّ ما فضل الله به غيره عليه. وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) وقيل العكس ، كما روى ذلك ابن جرير. وذهب الجمهور : إلى أن الناسخ لقوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (١) والموالي : جمع مولى ، وهو يطلق
__________________
(١). الأنفال : ٧٥.