على الإتباع على محلّ وعلى سمعهم ، كقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) (١) وقول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
وإنما وحّد السمع مع جمع القلوب والأبصار ، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب : هو ما يؤلم ، وهو مأخوذ من الحبس والمنع ، يقال في اللغة أعذبه عن كذا : حبسه ومنعه ، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا في تفسير الآية : أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (٢) قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان ، والحكم ابن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) قال : أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون. وجعل على أبصارهم : يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) (٣) وقال : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٤). قال ابن جرير في معنى الختم : والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم ذكر إسنادا متصلا بأبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه» فذلك الران الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥). وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصحّحه والنسائي. ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع ، فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلّها ، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ
__________________
(١). الواقعة : ٢٢.
(٢). إبراهيم : ٢٨.
(٣). الشورى : ٢٤.
(٤). الجاثية : ٢٣.
(٥). المطففين : ١٤.