هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ، كقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه : أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة : الستر والتغطية ، قال الشاعر :
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار : الإبلاغ والإعلام.
قال القرطبي : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصحّ ، فإنّ من عيّن أحدا فإنما مثّل بمن كشف الغيب بموته على الكفر ، انتهى. وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) خبر مبتدأ محذوف : أي هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل لا يؤمنون : أي هم لا يؤمنون. وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. انتهى. والأولى ما ذكرناه ، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئا بل بمنزلة العدم ، فهذه الجملة هي التي وقعت خبرا ل (إن) ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي. وقال ابن كيسان : إن خبر إن : سواء ، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد : سواء رفع بالابتداء ، وخبره أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والجملة خبر إن. والختم : مصدر ختمت الشيء ، ومعناه : التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة : الغطاء ، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيّان ؛ أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختما حسيّا ، والمستوثق منها استيثاقا حقيقيا ، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلا ، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه.
وقد اختلف في قوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفا على القلوب أو في حكم التغشية ، فقيل : إن الوقف على قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) تام ، وما بعده كلام مستقلّ ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة ، وقد قرئ «غشاوة» بالنصب. قال ابن جرير : يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن يكون نصبها