قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ) : للإنكار والتوبيخ. وقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية ، مؤكدة للتوبيخ والإنكار ، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في : شهيد ، يفيد مزيد التشديد والتهويل ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ) يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن : تصدون من أصد ، وهما لغتان : مثل : صد اللحم ، وأصد : إذا تغير وأنتن ، وسبيل الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج : الميل والزيغ ، يقال : عوج بالكسر : إذا كان في الدين والقول والعمل ، وبالفتح : في الأجسام كالجدار ونحوه ، روي ذلك عن أبي عبيدة ، وغيره ، ومحل قوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) النصب على الحال. والمعنى : تطلبون لها اعوجاجا ، وميلا عن القصد والاستقامة ، بإبهامكم على الناس بأنها كذلك ، تثقيفا لتحريفكم ، وتقويما لدعاويكم الباطلة : وقوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جملة حالية ، أي : كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل : إن في التوراة : أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، وأن فيه نعت محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : المراد (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي : عقلاء ؛ وقيل : المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم ، مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذرا لهم عن طاعة اليهود والنصارى ، مبينا لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. والاستفهام في قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) للإنكار ، أي : من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره ، وهو تلاوة آيات الله عليكم وكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهركم؟ ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ) وما بعده : النصب على الحال. ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ، ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو الإسلام ، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادعوه من العوج. قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم خاصة ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ، لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فينا وإن لم نشاهد. انتهى. ومعنى الاعتصام بالله : التمسك بدينه وطاعته ، وقيل : بالقرآن ، يقال : اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك : إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام : منع الجوع منه. قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : التقوى التي تحق له ، وهي : أن لا يترك العبد شيئا مما يلزمه فعله ، ولا يفعل شيئا مما يلزمه تركه ، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه. قال القرطبي : ذكر المفسرون : أنها لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله! من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت هذه الآية. روي ذلك عن قتادة ، والربيع ، وابن زيد. قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا. وقيل : إنّ قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) مبين بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١) والمعنى : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. قال : وهذا أصوب ، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن ، فهو أولى. قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : لا تكونن على حال
__________________
(١). التغابن : ١٦.