سوى حال الإسلام ، فالاستثناء مفرغ ، ومحل الجملة : أعني قوله : (وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : النصب على الحال ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية. قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة : السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وهو إما تمثيل ، أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين ، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم ، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا ، وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر ، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام. ومعنى قوله : (فَأَصْبَحْتُمْ) صرتم ، وليس المراد به : معناه الأصلي ، وهو : الدخول في وقت الصباح ، وشفا كل شيء : حرفه ، وكذلك شفيره ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه ، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقوله : (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ، أي : مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم. وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والازدياد منه.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا قد عسا (١) في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الأوس والخزرج في مجلس ، قد جمعهم يتحدثون فيه. فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة (٢) بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شابا معه من يهود ، فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار ، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعا وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، والظاهرة : الحرة ، فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستقذكم به من الكفر ، وألّف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ، فعرف القوم أنها نزغة من
__________________
(١). عسا الشيخ عسيّا : كبر وولّى.
(٢). قيلة : بطن من الأزد ، من كهلان ، من القحطانية ، وهم أبناء الأوس والخزرج.