(٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) هذا الاستفهام معناه : الجحد ، أي : لا يهدي الله ، ونظيره : قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) أي : لا عهد لهم ، ومثله قول الشاعر :
كيف نومي على الفراش ولمّا |
|
تشمل الشّام (١) غارة شعواء |
أي : لا نوم لي. ومعنى الآية : لا يهدي الله قوما إلى الحق كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا أن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة حالية ، أي : كيف يهدي المرتدّين ، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ، ومنهم الباقون على الكفر؟ ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر ، لأن المرتدّ قد عرف الحق ثم أعرض عنادا وتمرّدا. قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة ، وهو : مبتدأ ، خبره : الجملة التي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) معناه : يؤخرون ويمهلون. ثم استثنى التائبين ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي : من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة. وفيه دليل : على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام ، مخلصا ، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ. قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً). قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بإقامتهم على كفرهم ؛ وقيل : ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وجعلها في اليهود خاصة. وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (٢) مع كون التوبة مقبولة في الآية الأولى وكما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (٣) غير ذلك ؛ فقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس : وهذا قول حسن ، كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (٤) وبه قال الحسن ، وقتادة ، وعطاء ، ومنه الحديث : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ؛ وقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ، لأن الكفر أحبطها ، وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ، والأولى : أن يحمل عدم قبول توبتهم في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب ، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة ، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية ، وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) في حكم البيان لها. قوله : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) الملء بالكسر : مقدار ما يملأ الشيء ، والملء بالفتح : مصدر ملأت الشيء ، وذهبا : تمييز ، قاله الفراء وغيره. وقال الكسائي : نصب
__________________
(١). في القرطبي (٤ / ١٢٩) : يشمل القوم.
(٢). آل عمران : ٩٠.
(٣). الشورى : ٢٥.
(٤). النساء : ١٨.