وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))
أي : ما كان ينبغي ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة. وفيه بيان من الله سبحانه لعباده : أن النصارى افتروا على عيسى عليهالسلام ما لم يصح عنه ، ولا ينبغي أن يقوله. والحكم : الفهم والعلم. قوله : (وَلكِنْ كُونُوا) أي : ولكن يقول النبي : كونوا ربانيين ، والرباني : منسوب إلى الرب ، بزيادة الألف والنون للمبالغة ، كما يقال لعظيم اللحية : لحياني ، ولعظيم الجمة : جماني ، ولغليظ الرقبة : رقباني. قيل : الرباني : الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور. وقال المبرد : الربانيون : أرباب العلم ، واحدهم رباني ، من قوله : ربه ، يربه ، فهو ربان : إذا دبره وأصلحه ، والياء للنسب ، فمعنى الرباني : العالم بدين الربّ ، القويّ التمسك بطاعة الله ؛ وقيل : العالم الحكيم. قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) أي : بسبب كونكم عالمين ، أي : كونوا ربانيين بهذا السبب ، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم ، وقوة التمسك بطاعة الله. وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة : «بما كنتم تعلّمون» بالتشديد. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف ، واختار القراءة بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. قال : لأنها لجمع المعنيين. قال مكي : التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالما غير معلم ، فالتشديد يدل على العلم والتعليم ، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط. واختار القراءة الثانية أبو حاتم. قال أبو عمرو : وتصديقها : تدرسون بالتخفيف دون التشديد. انتهى. والحاصل : أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم ، وهو أن يكون مع ذلك مخلصا أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية ؛ ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس ، فيكون المعنى : كونوا معلمين بسبب كونكم علماء ، وبسبب كونكم تدرسون العلم. وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم أن يعمل ، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه ، والإخلاص لله سبحانه. قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) بالنصب عطفا على (ثُمَّ يَقُولَ وَلا) مزيدة لتأكيد النفي ، أي : ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ، ولا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، بل ينتهي عنه ، ويجوز عطفه على أن يؤتيه ، أي : ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ؛ وبالنصب قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وقرأ الباقون : بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأوّل ، أي : ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود : ولن يأمركم. والهمز في قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ) لإنكار ما نفي عن البشر. وقوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استدل به من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلىاللهعليهوسلم من المسلمين في أن يسجدوا له.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد! أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله في ذلك :