دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم ، فتشاحّ عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها ، وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده وحضنها. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) قال : جعلها معه في محرابه.
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))
قوله : (هُنالِكَ) ظرف يستعمل للزمان والمكان ، وأصله للمكان ؛ وقيل : إنه للزمان خاصة ، وهناك للمكان ، وقيل : يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر ، واللام للدلالة على البعد ، والكاف للخطاب. والمعنى : أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم ، أو في ذلك الزمان : أن يهب الله له ذرية طيبة ، والذي بعثه على ذلك : ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقرا ، فحصل له رجاء الولد ، وإن كان كبيرا ، وامرأته عاقرا ، أو بعثه على ذلك : ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء عند مريم ، لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر ، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط. والذرية : النسل ، يكون للواحد ويكون للجمع ، ويدل على أنها هنا للواحد ، قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ولم يقل أولياء ، وتأنيث طيبة : لكون لفظ الذرية مؤنثا. قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) ؛ قرأ حمزة والكسائي : فناده ، وبذلك قرأ ابن عباس ، وابن مسعود. وقرأ الباقون : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) ؛ قيل المراد هنا جبريل ، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية ، ومنه : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ؛ وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم ، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة. قوله : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية ، و (يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) صفة لقوله : (قائِمٌ) أو خبر ثان لقوله : (وَهُوَ). قوله : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) قرئ : بفتح أنّ ، والتقدير بأن الله ، وقرئ : بكسرها ، على تقدير القول. وقرأ أهل المدينة : يبشرك بالتشديد. وقرأ حمزة : بالتخفيف. وقرأ حميد بن قيس المكي بكسر الشين وضم حرف المضارعة. قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد ، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيرا في القرآن ، ومنه : (فَبَشِّرْ عِبادِ) (١) (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) (٢) (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) (٣) (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) (٤) وهي قراءة الجمهور.
__________________
(١). الزمر : ١٧.
(٢). يس : ١١.
(٣). هود : ٧١.
(٤). الفجر : ٥٥.