جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا. وخالف في ذلك قوم من السلف ، فقالوا : لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي : ذاته المقدسة ، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (١) وفي غيرها. وذهب بعض المتأخرين. إلى منع ذلك إلا مشاكلة. وقال الزجاج : معناه : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل. قال : وأما قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فمعناه : تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك. وقال بعض أهل العلم : معناه : ويحذركم الله عقابه مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) فجعلت النفس في موضع الإضمار ، وفي هذه الآية تهديد شديد ، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه. قوله : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) الآية ، فيه أن كل ما يضمره العبد ويخفيه ، أو يظهره ويبديه ، فهو معلوم لله سبحانه ، لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها ، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك. قوله : (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) وقيل : بمحذوف ، أي : اذكر ، و (مُحْضَراً) حال ، وقوله : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف على ما الأولى ، أي : وتجد ما عملت من سوء محضرا تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. فحذف محضرا لدلالة الأول عليه ، وهذا إذا كان (تَجِدُ) من وجدان الضالة ، وأما إذا كان من : وجد ، بمعنى : علم ، كان محضرا هو المفعول الثاني ، ويجوز أن يكون قوله : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) جملة مستأنفة ، ويكون (ما) في : ما عملت ، مبتدأ ، ويودّ خبره. والأمد : الغاية ، وجمعه آماد ، أي : تودّ لو أن بينها وبين ما عملت من السوء أمدا بعيدا ؛ وقيل : إن قوله : (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بقوله : (تَوَدُّ) والضمير في قوله : (وَبَيْنَهُ) لليوم ، وفيه بعد ، وكرر قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم ، وفي قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفا بهم. وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له : إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر ، فأنزل الله فيهم : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عنه قال : نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين ؛ إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين ، وذلك قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فقد برىء الله منه. وأخرج
__________________
(١). المائدة : ١١٦.
(٢). يوسف : ٨٢.