القيامة). وأخرجه عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر ؛ وقيل : إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون ، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون ، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته : إنه قد جنّ ، ومنه قول الأعشى في ناقته :
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما |
|
ألمّ بها من طائف الجنّ أولق |
فجعلها بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله : (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي : إلا قياما كقيام الذي يتخبطه ، والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمسّ : الجنون ، والأمس : المجنون ، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله : (يَقُومُونَ) أي لا يقومون من المسّ الذي بهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مسّ. وقد استعاذ النبي صلىاللهعليهوسلم من أن يتخبطه الشيطان ، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي : أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا ، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا ، أي : إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي أن الله أحلّ البيع وحرّم نوعا من أنواعه ، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع : أي دفع عوضا وأخذ معوّضا ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي ، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا (فَانْتَهى) أي : فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف : أي قوله : (فَانْتَهى) على قوله : (جاءَهُ). وقوله : (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بقوله : (جاءَهُ) أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي : كائنة (مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ ما سَلَفَ) أي : ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به ، لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا ، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا. وقوله : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قيل : الضمير عائد إلى الربا : أي : وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم ؛ وقيل الضمير عائد إلى ما سلف ، أي : أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه ؛ وقيل : الضمير يرجع إلى المربي ، أي : أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية (وَمَنْ عادَ) إلى أكل الربا والمعاملة به (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والإشارة إلى من عاد ، وجمع أصحاب باعتبار معنى من ؛ وقيل : إن معنى : من عاد : هو أن يعود إلى القول ب (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، وأنه يكفر بذلك ، فيستحق الخلود ؛ وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد : أي : طويل البقاء ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.