في قوله : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) يفيد التخصيص ، أي : لا تخصوا الخبيث بالإنفاق ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به ، قاصرين له عليه. قوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي : والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات ، هكذا بين معناه الجمهور ، وقيل : معناه : ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع. وقوله : (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) هو من أغمض الرجل في أمر كذا : إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغض بصره عنه ، ومنه قول الشاعر :
إلى كم وكم أشياء منك تريبني |
|
أغمّض عنها لست عنها بذي عمى |
وقرأ الزهري : بفتح التاء وكسر الميم مخففا. وروي عنه : أنه قرأ بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشدّدة ، وكذلك قرأ قتادة ، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين : إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم ، وعلى الثانية : إلا أن تأخذوا بنقصان. قال ابن عطية : وقراءة الجمهور تخرّج على التجاوز أو على تغميض العين ، لأن أغمض بمنزلة غمّض ، وعلى أنها بمعنى حتى ، أي : حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك. قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) قد تقدّم معنى الشيطان واشتقاقه. ويعدكم : معناه يخوّفكم الفقر ، أي : بالفقر لئلا تنفقوا ، فهذه الآية متصلة بما قبلها. وقرئ «الفقر» : بضم الفاء وهي لغة. قال الجوهري : والفقر : لغة في الفقر ، مثل الضعف ، والضعف. والفحشاء : الخصلة الفحشاء ، وهي المعاصي ، والإنفاق فيها ، والبخل عن الإنفاق في الطاعات. قال في الكشاف : والفاحش عند العرب : البخيل. انتهى. ومنه قول طرفة بن العبد :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي |
|
عقيلة مال الفاحش المتشدّد |
ولكن العرب وإن أطلقته على البخيل فذلك لا ينافي إطلاقهم له على غيره من المعاصي ، وقد وقع كثيرا في كلامهم. وقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) الوعد في كلام العرب : إذا أطلق فهو في الخير ، وإذا قيد : فقد يقيد تارة بالخير وتارة بالشرّ. ومنه قوله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) ومنه أيضا ما في هذه الآية من تقييد وعد الشيطان بالفقر ، وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة ، والفضل. والمغفرة : الستر على عباده في الدنيا والآخرة لذنوبهم وكفارتها ، والفضل : أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا ، فيوسع لهم في أرزاقهم ، وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل وأكثر وأجل وأجمل. قوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) هي العلم ؛ وقيل : الفهم ، وقيل : الإصابة في القول ، ولا مانع من الحمل على الجميع شمولا أو بدلا ؛ وقيل : إنها النبوة ؛ وقيل : العقل ؛ وقيل : الخشية ؛ وقيل : الورع ، وأصل الحكمة : ما يمنع من السفه ، وهو كل قبيح. والمعنى : أن من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيرا كثيرا ، أي : عظيما قدره ، جليلا خطره. وقرأ الزهري ويعقوب : «ومن يؤت الحكمة» على البناء للفاعل ، وقرأه الجمهور : على البناء للمفعول ، والألباب : العقول ، واحدها لبّ ، وقد تقدّم الكلام فيه ، قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ما : شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ، أي : الذي أنفقتموه ، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة
__________________
(١). الحج : ٧٢.