فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم ، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر ، ويجعلونه ذكرا مثل ذكرهم لآبائهم ، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج : إن قوله : (أَوْ أَشَدَّ) : في موضع خفض عطفا على ذكركم ، والمعنى : أو كأشدّ ذكرا ؛ ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي : اذكروه أشدّ ذكرا. وقال في الكشاف : إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ) كما تقول : كذكر قريش آباءهم ، أو قوم أشدّ منهم ذكرا. قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) الآية ، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره ، وكان الدعاء نوعا من أنواع الذكر ؛ جعل من يدعوه منقسما إلى قسمين : أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة ، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعا ؛ ومفعول الفعل ، أعني قوله : (آتِنا) محذوف ، أي : ما نريد أو ما نطلب ، والواو في قوله : (وَما لَهُ) واو الحال ، والجملة بعدها حالية. والخلاق : النصيب ، أي : وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب ، لأن همه مقصور على الدنيا ، لا يريد غيرها ، ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا ، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته ، ومعظم مقصوده. وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية ، فقيل : هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية ، وما لا بدّ منه من الرزق ، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا ؛ وقيل : المراد بحسنة الدنيا : الزوجة الحسناء ، وحسنة الآخرة : الحور العين ؛ وقيل : حسنة الدنيا : العلم والعبادة ؛ وقيل : غير ذلك. قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم ؛ أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال : وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء ؛ فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل ، وحسنة الآخرة : الجنة ، بإجماع. انتهى. قوله : (وَقِنا) أصله : أوقنا ، حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد ، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني (لَهُمْ نَصِيبٌ) من جنس ما (كَسَبُوا) من الأعمال ، أي : من ثوابها ، ومن جملة أعمالهم الدعاء ، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا ؛ وقيل : إن معنى قوله : (مِمَّا كَسَبُوا) التعليل ، أي : من أجل ما كسبوا ، وهو بعيد ؛ وقيل : إن قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين جميعا ، أي : للأوّلين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة ، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة ، وسريع : من سرع يسرع ، كعظم يعظم ، سرعا وسرعة ، والحساب : مصدر كالمحاسبة ، وأصله العدد ، يقال : حسب يحسب حسابا ، وحسابة وحسبانا وحسبا. والمراد هنا : المحسوب ، سمي : حسابا ، تسمية للمفعول بالمصدر ؛ والمعنى : أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه ، فبادروا ذلك بأعمال الخير ، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (١). قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية : هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، وهي أيام رمي الجمار. وقال الثعلبي : قال إبراهيم : الأيام المعدودات أيام العشر ، والأيام المعلومات أيام النحر. وكذا روي عن مكي والمهدوي. قال القرطبي : ولا يصح ، لما ذكرناه من
__________________
(١). لقمان : ٢٨.