وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضا. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية ، وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ) (١) الآية ، وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) (٢) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) (٣) الآية ، قال : هذا ونحوه نزل بمكة ، والمسلمون يومئذ قليل ، ليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه ، أو يصبروا ويعفوا ، فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه ، أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ، ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية ، فقال : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (٤) الآية. يقول : ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه ، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف ، قد عمل بحميّة الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى. انتهى. وأقول : هذه الآية ـ التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخة ـ مؤيدة لما تدل عليه الآيات ـ التي جعلها منسوخة ـ ومؤكدة له ، فإن الظاهر من قوله : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (٥) أنه جعل السلطان له ، أي : جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل ، ولهذا قال : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (٦) ثم لو سلّمنا أن معنى الآية كما قاله ؛ لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة ؛ لا ناسخا لها ، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده. وتلك الآيات شاملة له ولغيره ، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه.
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))
وفي هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، وهو الجهاد ، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله ، والباء في قوله : (بِأَيْدِيكُمْ) زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم ، ومثله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) وقال المبرد : (بِأَيْدِيكُمْ) أي : بأنفسكم ، تعبيرا بالبعض عن الكل ، كقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقيل : هذا مثل مضروب ، يقال : فلان ألقى بيده في أمر كذا : إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان ، وقال قوم : التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم. والتهلكة : مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة ؛ أي : لا تأخذوا فيما يهلككم. وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها ، وبيان سبب نزول الآية. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا ، وبه قال ابن جرير الطبري. ومن جملة ما يدخل تحت الآية ؛ أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين ، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب ، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها ، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب. وقوله : (وَأَحْسِنُوا) أي : في الإنفاق في الطاعة ، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم.
__________________
(١). الشورى : ٤٠.
(٢). الشورى : ٤١.
(٣). النحل : ١٢٦.
(٤). الإسراء : ٣٣.
(٥). الإسراء : ٣٣.
(٦). الإسراء : ٣٣.