كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى. ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال : إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولّوا أمور الشرع ظالما ، وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) : هو الكعبة ، غلب عليه كما غلب النجم على الثريا ، و (مَثابَةً) : مصدر من : ثاب ، يثوب ، مثابا ، ومثابة ، أي : مرجعا يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :
مثابا لأفناء القبائل كلّها |
|
تخبّ إليها اليعملات الذّوامل |
وقرأ الأعمش : «مثابات» وقيل : المثابة : من الثواب ، أي : يثابون هنالك ، وقال مجاهد : المراد : أنهم لا يقضون منه أوطارهم ، قال الشاعر :
جعل البيت مثابا لهم |
|
ليس منه الدهر يقضون الوطر |
قال الأخفش : ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه ، فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره : هي للتأنيث ؛ وليست للمبالغة. وقوله : (وَأَمْناً) هو اسم مكان ، أي : موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم ؛ على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وقيل : إن ذلك منسوخ. وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قرأ نافع وابن عامر : بفتح الخاء على أنه فعل ماض ، أي : جعلنا البيت مثابة للناس ، وأمنا ، واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون : على صيغة الأمر ؛ عطفا على اذكروا ؛ المذكور أوّل الآيات ، أو على اذكروا المقدّر عاملا في قوله : (وَإِذْ) ويجوز أن يكون على تقدير القول ، أي : وقلنا اتخذوا : والمقام في اللغة : موضع القيام. قال النحاس : هو من : قام ، يقوم ، يكون مصدرا واسما للموضع ، ومقام : من : أقام ، وليس من هذا قول الشاعر :
وفيهم مقامات حسان وجوههم |
|
وأندية ينتابها القول والفعل |
لأن معناه أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ، ويصلّون عنده ركعتي الطواف ؛ وقيل : المقام : الحج كله ، روي ذلك عن عطاء ومجاهد ؛ وقيل : عرفة والمزدلفة ، روي عن عطاء أيضا. وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد.
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد. في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق والسّواك ، وفرق الشعر ، وفي الجسد : تقليم الأظافر ، وحلق العانة ، والختان ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ،