و (إِبْراهِيمَ) معناه في السريانية : أب رحيم ، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية : ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير ، وأجاب عنه بأنه قد تقدّم لفظا فرجع إليه ، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره ، أو ترد في مثله الأسئلة ، أو يسوّد وجه القرطاس بإيضاحه. وقوله : (بِكَلِماتٍ) قد اختلف العلماء في تعيينها ، فقيل : هي شرائع الإسلام ، وقيل : ذبح ابنه ، وقيل : أداء الرسالة ، وقيل : هي خصال الفطرة ، وقيل : هي قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقيل : بالطهارة ، كما سيأتي بيانه. قال الزجّاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم. انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) وما بعده ، ويكون ذلك بيانا للكلمات ، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك ، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) مستأنفا ، كأنه : ماذا قال له؟ وقال ابن جرير ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ؛ ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ثم قال : فلو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح الربيع بن أنس أولى بالصواب ، يعني : أن الكلمات هي قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ) وما بعده. ورجّح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر ، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) أي : قام بهنّ أتم قيام ، وامتثل أكمل امتثال. والإمام : هو ما يؤتم به ، ومنه قيل للطريق : إمام ، وللبناء : إمام ، لأنه يؤتم بذلك ، أي : يهتدي به السالك ، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم ، أي : واجعل من ذريتي أئمة ، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته ، أي : ومن ذريتي ماذا يكون يا ربّ؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ، ولا يقومون به ، ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية : مأخوذة من الذرّ ، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذرّ ، وقيل مأخوذة من : ذرأ الله الخلق يذرؤهم : إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (١) قال في الصحاح : ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا ، أي : نسفته ؛ وقال الخليل ، إنما سمّوا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزراع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل : الإمامة ؛ وقيل : النبوّة ؛ وقيل : عهد الله : أمره. وقيل : الأمان من عذاب الآخرة ، ورجّحه الزجّاج ، والأوّل أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد ، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد ، وما تفيده الإضافة من العموم ، فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير : أن هذه الآية وإن
__________________
(١). الكهف : ٤٥.