النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا ، أعني : من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) أي : نأمر بنسخه. الوجه الثاني : الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة : أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه : نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وفي صحيح مسلم : «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت» أي : تحوّلت من حال إلى حال. والثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع ، فلا تتلى ولا تكتب. ومنه ما روي عن أبيّ وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير : (ما نَنْسَخْ) ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ؛ فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره ، وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة. انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستقصاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفا وخلفا ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدّ بخلافه ولا يؤبه لقوله. وقد اشتهر عن اليهود ـ أقمأهم الله ـ إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليهالسلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم قد حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت ، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليهالسلام وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليهالسلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو هذا كثيرا في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله : أو ننسأها قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز ، وبه قرأ عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبي بن كعب ، وعبيد بن عمير ، والنخعي ، وابن محيصن ، ومعنى هذه القراءة : نؤخرها عن النسخ من قولهم : نسأت هذا الأمر إذا أخرته. قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم إذا أخرتهم ؛ وقيل : معناه نؤخر نسخ لفظها ، أي : نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر.
__________________
(١). الجاثية : ٢٩.