وقرأ الباقون (نُنْسِها) بضم النون ، من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي : نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) أي : تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الأزهري أن معناه : نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونسيته تركته ، ومنه قول الشاعر :
إنّ عليّ عقبة أقضيها |
|
لست بناسيها ولا منسيها |
أي : ولا آمر بتركها. وقال الزجّاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى ، بمعنى : ترك ؛ قال : وما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (أَوْ نُنْسِها) قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى (أَوْ نُنْسِها) نبح لكم تركها ، من نسي ، إذا ترك ، ثم تعديه. ومعنى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) نأت بما أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخفّ ، فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر ، فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يفيد أن النسخ من مقدوراته ، وإن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية ، وهكذا قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها ، وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن عديّ ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبيّ صلىاللهعليهوسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكانا يقرآن ذات ليلة يصلّيان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها» وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) يقول : ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : (نُنْسِها) نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن مسعود في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قال : نثبت خطها ، ونبدل حكمها (أَوْ نُنْسِها) قال نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه ،
__________________
(١). التوبة : ٦٧.