في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (راعِنا) لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوا لنبيه صلىاللهعليهوسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تقولوا للعنب : الكرم ولكن قولوا : الحبلة ، ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي» وما أشبه ذلك. وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية ، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين ، حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه ، ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم فقال : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الآية. وقوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) في محل نصب على المفعولية ، و «من» في قوله : (مِنْ خَيْرٍ) زائدة ، قاله النحاس ، وفي الكشاف أن «من» في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية ، وفي قوله : (مِنْ خَيْرٍ) مزيدة لاستغراق الخير ، وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) لابتداء الغاية ، وقد قيل : بأن الخير : الوحي ؛ وقيل : غير ذلك ، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان ، فهو لا يختص بنوع معين ، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي ، وتأكيد العموم بدخول «من» المزيدة عليها ، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص. والرحمة قيل : هي القرآن ؛ وقيل : النبوّة ؛ وقيل : جنس الرحمة من غير تعيين ، كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : صاحب الفضل العظيم ، فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده.
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود : أن رجلا أتاه فقال : اعهد إليّ فقال : إذا سمعت الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شرّ ينهى عنه. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : (راعِنا) بلسان اليهود : السبّ القبيح ، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرا ، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل الله الآية. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه ، أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية : من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه ، فانتهت اليهود بعد ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال : كان رجلان من اليهود : مالك بن الصيف ، ورفاعة بن زيد ، إذا لقيا النبي صلىاللهعليهوسلم قالا له وهما يكلمانه : راعنا سمعك واسمع غير مسمع ، فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم ، فقالوا للنبيّ : فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فقالوا : ارعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : (انْظُرْنا) ليعزّروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويوقّروه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة : أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاء ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الرحمة : القرآن والإسلام.
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))