والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمرا لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها |
|
وقضى عليك به الكتاب المنزل |
وهو ضرب من الهجاء بليغ ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ، ومنه قول الشاعر :
إنّ المروءة والشّجاعة والنّدى |
|
في قبّة ضربت على ابن الحشرج |
وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ الفرق وأشدّهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصيّ في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسّك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ ، فهو متظاهر بالفقر متردّ بأثواب المسكنة ، ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجري على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه. ومعنى : (باؤُ) رجعوا ، يقال باء بكذا ، أي رجع به ، وباء إلى المباءة : أي رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء : أي سواء : يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقا بأن يقبل به لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :
ألا تنتهي عنّا ملوك وتتّقي |
|
محارمنا لا يبوؤ الدّم بالدّم |
والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه ؛ وقد تقدم تفسير الغضب. والإشارة بقوله (ذلِكَ) إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر. ويمكن أن يقال : أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا ، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم وهم يعملون ويعتقدون أنهم ظالمون. وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده ، وقيل يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل ، فيكون ما بعدها سببا للسبب وهو بعيد جدا. والاعتداء : تجاوز الحدّ في كل شيء.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) قال ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) قال : لا تسعوا في الأرض فسادا. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعني ولا تمشوا بالمعاصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال :