الدلائل ، وقربت الحجج ، وظهرت البراهين ، جعلا كالطريق المرتفعة العالية ، في أنها واضحة لذوي الأبصار.
أو إنما سميا بذلك ، للإشارة إلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها ، وليس سلوك طريق الشر بأهون من سلوك الخير ، بل الغالب أن يكون طريق الشر ، أشق وأصعب ، وأحوج إلى الجهد .. (١).
وبعد بيان هذه النعم الجليلة التي أنعم الله بها ـ سبحانه ـ على الإنسان ، أتبع ـ سبحانه ـ ذلك بحضه على المداومة على فعل الخير ، وعلى إصلاح نفسه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ).
والفاء في قوله ـ سبحانه ـ : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) للتفريع على ما تقدم ، والمقصود بهذه الآية الحض على فعل الخير بدل الشر.
وقوله : (اقْتَحَمَ) من الاقتحام للشيء ، بمعنى دخوله بشدة. يقال : اقتحم الجنود أرض العدو ، إذا دخلوها بقوة وسرعة ، وبدون مبالاة بارتكاب المخاطر.
والعقبة في الأصل : الطريق الوعر في الجبل ، والمراد بها هنا : مجاهدة النفس ، وقسرها على مخالفة هواها وشهوتها ، وحملها على القول والفعل الذي يرضى الله تعالى ـ.
والمعنى : لقد جعلنا للإنسان عينين ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين. فهلا بعد كل هذه النعم ، فعل ما يرضينا ، بأن جاهد نفسه وهواه ، وبأن قدم ماله في فك الرقاب ، وإطعام اليتامى والمساكين.
قال الجمل : وقوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أى : فهلا اقتحم العقبة ، فلا بمعنى هلا التي للتحضيض. أى : الذي أنفق ماله في عداوة النبي صلىاللهعليهوسلم هلا أنفقه في اقتحام العقبة فيأمن .. (٢).
وقد استعيرت العقبة لمجاهدة النفس ، وحملها على الإنفاق في سبيل الخير ، لأن هذه الأعمال شاقة على النفس ، فجعلت كالذي يتكلف سلوك طريق وعر ..
ويصح أن تكون «لا» هنا ، على معناها الحقيقي وهو النفي ، فيكون المعنى : أن هذا
__________________
(١) تفسير جزء عم ص ٢٠٤ للشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٣٩.