فالمقصود بهاتين الآيتين : بيان أن الإنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك ، لأن جوارحه شاهدة عليه ، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة ، لأنها جاءت في غير وقتها ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
ثم أرشد الله ـ تعالى ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم إلى ما يجب عليه عند تبليغ القرآن إليه عن طريق الوحى. فقال ـ سبحانه ـ : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).
والضمير في (بِهِ) يعود إلى القرآن الكريم المفهوم من المقام. والمراد بقوله : (لا تُحَرِّكْ) نهيه صلىاللهعليهوسلم عن التعجل في القراءة.
والمقصود بقوله : قرآنه ، قراءته عليك ، وتثبيته على لسانك وفي قلبك بحيث تقرؤه متى شئت فهو مصدر مضاف لمفعوله.
قال الآلوسى : قوله : (وَقُرْآنَهُ) أى : إثبات قراءته في لسانك ، فالقرآن هنا ، وكذا فيما بعده ، مصدر كالرجحان بمعنى القراءة .. مضاف إلى المفعول وقيل : قرآنه ، أى : تأليفه على لسانك .. (١).
أى : لا تتعجل ـ أيها الرسول الكريم ـ بقراءة القرآن الكريم عند ما تسمعه من أمين وحينا جبريل ـ عليهالسلام ـ ، بل تريث وتمهل حتى ينتهى من قراءته ثم اقرأ من بعده ، فإننا قد تكفلنا بجمعه في صدرك وبقراءته عليك عن طريق وحينا ، وما دام الأمر كذلك ، فمتى قرأ عليك جبريل القرآن فاتبع قراءته ولا تسبقه بها ، ثم إن علينا بعد ذلك بيان ما خفى عليك منه ، وتوضيح ما أشكل عليك من معانيه.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه ؛ هذا تعليم من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم في كيفية تلقيه الوحى من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلىاللهعليهوسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه ـ يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه شيء ، أو من شدة رغبته في حفظه ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (٢).
فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ضمن لنبيه صلىاللهعليهوسلم أن يجمع له القرآن في صدره وأن يجريه على لسانه ، بدون أى تحريف أو تبديل ، وأن يوضح له ما خفى عليه منه.
قالوا : فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا ما نزل عليه الوحى بعد ذلك بالقرآن ، أطرق وأنصت ، وشبيه بهذه الآيات قوله ـ سبحانه ـ : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ، وَلا تَعْجَلْ
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٤٢.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٤.