ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
والذلول : السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها ؛ من مشى عليها ، أو غرس فيها ، أو بناء فوقها .. من الذّل وهو سهولة الانقياد للغير ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ ..) أى : غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض ..
والأمر في قوله (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) للإباحة ، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا : جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها ..
وهو مثل لفرط التذليل ، وشدة التسخير ..
أى : هو ـ سبحانه ـ الذي جعل لكم ـ بفضله ورحمته ـ الأرض المتسعة الأرجاء. مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها ، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها ..
ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها .. ملتمسين رزق ربكم فيها ، وداوموا على ذلك ، ففي الحديث الشريف : «التمسوا الرزق في خبايا الأرض».
والمراد بقوله : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم .. فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم.
قال بعض العلماء : قال الإمام النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة ، لتستغنى عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج ..
وقد أعطى الله ـ تعالى ـ العالم الإسلامى الأولوية في هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا .. (١).
وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ..). فقال ما ملخصه : والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة
__________________
(١) تفسير أضواء البيان ج ٨ ص ٤٠٦.