ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا آخر من حسراتهم في هذا اليوم فقال : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ..).
أى : وقال الكافرون بربهم ـ على سبيل الحسرة والندامة ـ لو كنا في الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا ، سماع طاعة وتفكر واستجابة ، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات ..
لو كنا كذلك ، ما صرنا في هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة ، الذين هم خالدون فيها أبدا.
وقدم ـ سبحانه ـ السماع على التعقل ، مراعاة للترتيب الطبيعي ، لأن السماع يكون أولا ، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع.
والفاء الأولى في قوله ـ تعالى ـ : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) للإفصاح ، والثانية للسببية ، والسّحق : البعد ، يقال : سحق ـ ككرم وعلم ـ سحقا ، أى : بعد بعدا ، وفلان أسحقه الله ، أى : أبعده عن رحمته ، وهو مصدر ناب عن فعله في الدعاء ، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر ، أى : ألزمهم الله سحقا ، أو منصوب على المصدرية ، أى : فسحقهم الله سحقا.
أى : إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم ، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم ، وأن الله ـ تعالى ـ ما ظلمهم ، وأن ندمهم لن ينفعهم في هذا اليوم .. بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ وبخلودهم في نار السعير.
واللام في قوله (لِأَصْحابِ) للتبيين ، كما في قولهم : سقيا لك.
فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم ، وإصرارهم عليه حتى الممات ، وفي الحديث الشريف : «لن يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة». وفي حديث آخر : «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» (١).
وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس ، أخذت السورة في بيان حسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين ، وفي لفت أنظار الناس إلى نعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، لكي يشكروه ويخلصوا له العبادة .. قال ـ تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٠٥.