وقوله : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) بيان لما اقتضته حكمته ـ تعالى ـ أى : أن حكمته ـ تعالى ـ قد اقتضت عدم التوسعة في الرزق لجميع عباده ، لأن هذه التوسعة تحملهم على التكبر والغرور والبطر ، لذا أنزل الله ـ تعالى ـ لهم الرزق بتقدير محدد اقتضته حكمته ومشيئته ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) تعليل لتنزيله الرزق على عباده بتقدير وتحديد دقيق.
أى : فعل ما فعل ـ سبحانه ـ من إنزال الرزق على عباده بقدر ، لأنه ـ تعالى ـ خبير بخفايا أحوال عباده ، وبطوايا نفوسهم ، بصير بما يقولونه وبما يفعلونه.
قال صاحب الكشاف : أى أنه ـ تعالى ـ يعلم ما يؤول إليه حالهم ، فيقدر لهم ما هو أصلح لهم ، وأقرب إلى جمع شملهم ، فيفقر ويغنى ، ويمنع ويعطى ، ويقبض ويبسط ، كما توجبه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا.
ولا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ، ومع البسط أكثر وأغلب ، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه ، فلو عم البسط ، لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما هو عليه الآن (١).
ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وكلها تدل على وحدانيته وكمال قدرته فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا).
أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي ينزل المطر على عباده ، من بعد أن انتظروه فترة طويلة حتى ظهرت على ملامحهم علامات اليأس ، وبدأت على وجوههم أمارات القنوط.
وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) معطوف على (يُنَزِّلُ). أى : ينزل الأمطار بعد يأس الناس من نزولها ، وينشر رحمته عليهم عن طريق ما ينتج عن هذه الأمطار من خيرات وبركات وأرزاق.
(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (الْوَلِيُ) أى : الذي يتولى عباده برحمته وإحسانه (الْحَمِيدُ) أى : المحمود على فعله ، حيث أنزل على عباده الغيث بعد أن يئسوا منه ، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تصور جانبا من فضل الله على عباده بطريقة محسوسة ، فالتعبير بالغيث يشعر بالغوث والنجدة بعد أن فقد الناس الأمل في ذلك ، والتعبير بالقنوط
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٢٤.