ألا ترى إلى الخليل في بداية أمره كيف قال : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، فأجابه الله قال : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] ، فأحوجه إلى رؤية القدرة في الفعل بقوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) [البقرة : ٢٦٠] ، وليس في الوصفين شكّ من جانب النبوة ومن جانب الولاية ، فلمّا سمع عيسى عليهالسلام منهم اشتد عليه أمرهم وعجب منهم ذلك بعد إبقائهم ، وأجابهم بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : خافوا الله فيما يجري عليكم من معارضة النفس ، أي : ألزموا اشتغالكم بدفع الخطرات ؛ كي لا تحتجبوا عنه بغيره ، وإن من وصل إليه بنعت المعرفة ورؤية الغيب لا يستحسن منه طلب الآيات لتصديق الباطن ، فإنه صفة أهل البداية ، فأظهر القوم عجزهم عن إدراك مقامات أهل التمكين بقوله تعالى : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي : نريد أن تربّي أبداننا بمأكول الجنة ، كما تربّي قلوبنا وأرواحنا بموائد المشاهدة ، ويزيد في قلوبنا تصديقك ومحبتك حتى لا تبقى فينا معارضة الطبيعة ، ونكون من شهداء رؤية المعجزة ، الصادقين بآثارنا عند المريدين المقتدين ، ولأنك قلت لنا : أنتم أصفياء الله وأولياؤه ، وإذا حصل مرادنا تحصل طمأنينة قلوبنا في صدق الله وصدقك وصدق ولايتنا ، فسأل عليهالسلام مرادهم بقوله تعالى : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) سأل من السماء لا من الأرض لما فيها من الروحانية والحنانية والملكوتية غير ممزوجة بعناصر الدهر الذي يتولد منه عصيان الله. وأيضا : يسأل من السماء خصوصية في المعجزات.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))
قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي : اجعلها عيدا ولا تجعلها وعيدا لمجهور ، واجعلها سببا لعودنا من رؤية الآيات إلى رؤية الصفات ، عيدا لأولنا من المريدين وآخرنا من العارفين ، (وَآيَةً مِنْكَ) دليلا منك إليك ، فأجابهم الله سبحانه بما سألوا وهداهم من كفران نعمته بقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : من عاين رؤية صفاتي في رؤية آياتي ثم يرجع إلى الفترة وحظوظ النفس واختيار شهوة الدنيا علينا فإنا نحجبه عنا حتى لا تصل إلى قلبه نسم عبير صفاتي وورد جلال مشاهدتي ، ولا يشرق عقله صبح وصالي ، ولا تنكشف لروحه أنوار