قال الجنيد : لن يصل إلى قلبك روح التوحيد ، وله عندك حقّ لم تقضه أو لم تؤده.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) هذا بلسان الحقيقة خاطب المريدين الذين آمنوا بالمقامات والكرامات والمكاشفات والمشاهدات في بدو الإرادة مطلقا بغير المباشرة ، فإذا وقعوا في مسلك الحقائق رأوا أحكام الغيب ، وسمعوا أصوات الإلهام من هواتف الملكوت ، واضطربوا عند معارضة النفوس ، أي : أيها المدّعون في بدايتكم بالإيمان على حقائق الطريقة اثبتوا بنعت الإيقان في محل الامتحان عند كشوف أسرار الغيب ، وأيقنوا أن ما سمعتم من خطاب الأسرار فهو كلامي على لسان تلك الهواتف.
وأيضا : لهذا خطاب الأكابر ، أي : أيها العارفون اعرفوني ؛ فإن ما وصلكم من معرفتي فهو يؤولكم إلى النكرة ، ومن ظن منكم أنه بلغ إلى حقيقة المعرفة أخطأ الطريق ، فإني ممتنع بعزتي وجلالي عن مطالعة الخليقة وجود قدمي ، وارجعوا من تفردكم عند إفرادكم القدم عن الحدوث إلى الوسائط ، يعني الإيمان بالرسول ؛ فإنه حادث يكون محل الحوادث ، وساحة الكبرياء منزّهة عن الإيمان والكفر.
سئل فارس : ما معنى هذه الآية وليس في ظاهرها التجريد؟ قال : التجريد إنما يقع بلسان السرّ من جهة هواتف الحق ، ومعنى الآية : (آمَنُوا) ، وقوله : (وَرَسُولِهِ) يريد تكرار الإيمان.
وقيل : أي : أيها المدعون تجريد الإيمان بي من غير واسطة ، لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط.
قال الأستاذ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن يؤمنوا من حيث الكشف والعيان.
ويقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا تحتم بعفوه الوصول ، واستمكنت منكم حيرة البديهة ، وغلبات الذهول ، ثم أفقتم من تلك الغيبة ، فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات ، فإن الصمدية ممتنعة مقدسة عن كل قرب وبعد ووصل وفصل.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) يصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله والإيمان بهم وبأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم أشرفهم عند الخاص والعام ، وآمنوا رسما لا استعدادا ، فلمّا جنّت عليهم ظلمات المجاهدات لم يحتملوا ، وأنكروا عليهم ، ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، فإذا سمعوا أفكار الخلق على ترددهم ورأوا مهابة الأكابر