قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١) الأمانة : عهد الله الأزلي ، الذي عاهد به أرواح أهل القرب في مشاهدة جماله ؛ حيث قبلت الأرواح من الربوبية سمات العبودية ، ومن المشاهدة لطائف المحبة ، ووجدت أسرار الملك والملكوت عند سرادق الجبروت ، فكتمتها عن الأغيار ، فلما تلبست بالأشباح كادت تفشيها من الضعف عن حملها ، فأمرهم الله بكتمانها عن الخلق حتى يؤدونها إلى الحق سبحانه عند كشف جماله في الآخرة ؛ لأنه تعالى أهل تلك الأمانة ، وذلك قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] ، لأنه أيضا أمرهم بإظهار ما كوشف لهم من أحكام الغيب عند العارفين وكتمانها عن الجاهلين.
قال الجريري : أفضل الأمانات أمانة الأسرار ، فلا يظهرها ولا يكشفها إلا لأهلها ؛ لأنهم أهل الأمانة العظمى.
قال بعضهم : الأمانة أسرار الله ، وأهل الأمانة هم العارفون بالله والعالمون بأسراره ، وهم الناظرون إلى القلوب بأنوار الغيوب ، فيحكمون عليها ، حقق الله أحكامهم ، وهو الذي قال الله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) جعل الله تعالى الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل واحد ؛ لأنّه مرجع الكل ، وكل طاعة منها مخصوصة بمقام من مقام الولاية ، فإذا كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة
__________________
(١) ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم ، ويقال لله سبحانه وتعالى أمانات وضعها عندك ؛ فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله سبحانه سالمة من خيانتك فيها ؛ فالخيانة في أمانة القلب ادعاؤك فيها ، والخيانة في أمانة السّرّ ملاحظتك إياها ، والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب ، والبعيد في العطاء والبذل ، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس [تفسير القشيري (١ / ٤٩١)].